فصل: فصل بيانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل بيانِ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا ما هو وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حتى لو أَذَّنَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دخل الْوَقْتُ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقد قال أبو يُوسُفَ أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ من اللَّيْلِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى سَالِمُ بن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ عن أبيه رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ بِلَالًا كان يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ وفي رواية‏:‏ قال لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عن السَّحُورِ فإنه يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ وفي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رَوَى شَدَّادُ مولى عِيَاضِ بن عَامِرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِبِلَالٍ لَا تُؤَذِّنْ حتى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قبل الدُّخُولِ كَذِبٌ وَكَذَا هو من باب الْخِيَانَةِ في الْأَمَانَةِ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ على لِسَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا لم يجر ‏[‏يجز‏]‏ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قبل الْفَجْرِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ لِأَنَّ ذلك وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا في حَقِّ من تَهَجَّدَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من اللَّيْلِ فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عليهم وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كان إذَا سمع من يُؤَذِّن قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ قال عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا في الْوَقْتِ لو أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ وَبِلَالٌ رضي اللَّهُ عنه ما كان يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَمْنَعَنَّكُمْ من السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فإنه يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صائمكن ‏[‏صائمكم‏]‏ فَعَلَيْكُمْ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وقد كانت الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من اللَّيْلِ وَفِرْقَةٌ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ وكان الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كان لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كان يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وما ذُكِرَ من الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ في الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فيه‏.‏

فصل بيانِ ما يَجِبُ على السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ على السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ عليهم الْإِجَابَةُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ من الْجَفَاءِ من بَالَ قَائِمًا وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وَمَنْ سمع الْأَذَانَ ولم يُجِبْ وَمَنْ سمع ذِكْرِي ولم يُصَلِّ عَلَيَّ وَالْإِجَابَةُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ما قال الْمُؤَذِّنُ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قال مِثْلَ ما يقول الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ» فيقول مِثْلَ ما قَالَهُ إلَّا في قَوْلِهِ حَيَّ على الصَّلَاةِ حَيَّ على الْفَلَاحِ فإنه يقول مَكَانَهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ إعَادَةَ ذلك تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَكَذَا إذَا قال الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةُ خَيْرٌ من النَّوْمِ لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ يقول صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ أو ما يُؤْجَرُ عليه وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ في حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا بِشَيْءٍ من الْأَعْمَالِ سِوَى الْإِجَابَةِ وَلَوْ كان في الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ كَذَا قالوا في الْفَتَاوَى وَالله أعلم‏.‏

صلاة الجماعة وَالثَّانِي الْجَمَاعَةُ وَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي بَيَانِ من تَنْعَقِدُ بِهِ وفي بَيَانِ ما يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ لها على التَّفْصِيلِ وفي بَيَانِ من هو أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ وفي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أنها وَاجِبَةٌ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها سُنَّةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ على صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وفي رواية‏:‏ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَارْكَعُوا مع الرَّاكِعِينَ‏}‏ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّكُوعِ مع الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ في حَالِ الْمُشَارَكَةِ في الرُّكُوعِ فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لقد هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عن الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَأَمَّا تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ من لَدُنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَاظَبَتْ عليها وَعَلَى النَّكِيرِ على تَارِكِهَا وَالْمُوَاظَبَةُ على هذا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ هذا اخْتِلَافًا في الْحَقِيقَةِ بَلْ من حَيْثُ الْعِبَارَةُ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا ما كان من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فقال الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عنها إلَّا لِعُذْرٍ وهو تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ‏.‏

فصل بيانِ من تَجِبُ عليه الْجَمَاعَةُ

وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه الْجَمَاعَةُ فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا تَجِبُ على الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْأَحْرَارِ الْقَادِرِينَ عليها من غَيْرِ حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ على النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِين وَالْعَبِيدِ وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يَقْدِرُ على الْمَشْيِ وَالْمَرِيضِ أَمَّا النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ وَأَمَّا الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ في حَقِّهِمْ وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عن مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ على الْمَشْيِ وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عليه إلَّا بِحَرَجٍ وَأَمَّا الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عليه وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وعند ‏[‏ومحمد‏]‏ محمد تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مع حُجَجِهَا تَأْتِي في كتاب الْحَجِّ إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل بيانِ من تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ

وَأَمَّا بَيَانُ من تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَأَقَلُّ من تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ وهو أَنْ يَكُونَ مع الْإِمَامِ وَاحِدٌ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الِاثْنَانِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ من مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَأَقَلُّ ما يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ إثنان وَسَوَاءٌ كان ذلك الْوَاحِدُ رَجُلًا أو امْرَأَةً أو صَبِيًّا يَعْقِلُ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كل وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ‏.‏

فصل بيانِ ما يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ في مَسْجِدٍ آخَرَ لَكِنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ في مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أتى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ فيه فَحَسَنٌ وَإِنْ صلى في مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قال كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ من يُصَلِّي في مَسْجِدِ حَيِّهِ وَمِنْهُمْ من يَتَّبِعُ الْجَمَاعَةَ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ في كل جَانِبٍ مُرَاعَاةَ حُرْمَةٍ وَتَرْكَ أُخْرَى فَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ وفي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ حَقِّ مَسْجِدِهِ فإذا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ جَمَعَ بِأَهْلِهِ في مَنْزِلِهِ وَإِنْ صلى وَحْدَهُ جَازَ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ من الْمَدِينَةِ إلَى صُلْحٍ بين حَيَّيْنِ من أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَانْصَرَفَ منه وقد فَرَغَ الناس من الصَّلَاةِ فَمَالَ إلَى بَيْتِهِ وَجَمَعَ بِأَهْلِهِ في مَنْزِلِهِ وفي هذا الحديث دَلِيلٌ على سُقُوطِ الطَّلَبِ إذْ لو وَجَبَ لَكَانَ أَوْلَى الناس بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى في زَمَانِنَا أَنَّهُ إذَا لم يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ دخل مَسْجِدَهُ صلى فيه‏.‏

فصل بيانِ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ فَهُوَ كُلُّ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ حتى تَجُوزَ إمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْأَعْمَى وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ وقال مَالِكٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ ووجه قَوْلِهِ إن الْإِمَامَةَ من باب الْأَمَانَةِ وَالْفَاسِقُ خَائِنٌ وَلِهَذَا لَا شَهَادَةَ له لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ من باب الْأَمَانَةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلُّوا خَلْفَ من قال لاإله إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا خَلْفَ كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَالْحَدِيثُ وَالله أعلم‏.‏وَإِنْ وَرَدَ في الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْأُمَرَاءِ وَأَكْثَرُهُمْ فُسَّاقٌ لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فيه إذْ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضوان ‏[‏رضي‏]‏ اللَّهُ عَنْهُمْ كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَالتَّابِعُونَ اقْتَدَوْا بِالْحَجَّاجِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مع أَنَّهُ كان أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ حتى كان عُمَرُ بن الْعَزِيزِ يقول لو جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بابي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ وأبو مُحَمَّدٍ كُنْيَةُ الْحَجَّاجِ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ مولى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ قال عَرَّسْتُ فَدَعَوْتُ رَهْطًا من أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ أبو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وأبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فصليْتُ بِهِمْ وأنا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ وفي رواية‏:‏ قال فَتَقَدَّمَ أبو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقِيلَ له أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ في بَيْتِ غَيْرِكَ فَقَدَّمُونِي فصليْتُ بِهِمْ وأنا يَوْمئِذٍ عَبْدٌ وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ في كتاب الْمَأْذُونِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ على الصَّلَاةِ بِالْمَدِينَةِ حين خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وكان أَعْمَى وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عليها لا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى لِأَنَّ مَبْنَى الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ وَلِهَذَا كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّ غَيْرَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ غَيْرُهُ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ من الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في عَصْرِهِ وَلِأَنَّ الناس لَا يَرْغَبُونَ في الصَّلَاةِ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فَتُؤَدِّي إمَامَتُهُمْ إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ على الْعِلْمِ وَالْغَالِبُ على الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا الْجَهْلُ أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ عن خِدْمَةِ مَوْلَاهُ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ إذَا سَاوَى الْعَبْدُ غَيْرَهُ في الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ كان هو وَغَيْرُهُ سَوَاءً وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ مولى بَنِي أُسَيْدٍ وَذَا يَدُلُّ على الْجَوَازِ وَلَا كَلَامَ فيه وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَانْتِقَاصُ فَضِيلَتِهِ عن فَضِيلَةِ الْأَحْرَارِ يُوجِبَانِ الْكَرَاهَةَ وَكَذَا الْغَالِبُ على الْأَعْرَابِيِّ الْجَهْلُ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رَسُولِهِ‏}‏ وَالْأَعْرَابِيُّ هو الْبَدَوِيُّ وَإِنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ وَالْعَرَبِيُّ اسْمُ مَدْحٍ وَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ من حَالِهِ الْجَهْلُ لِفَقْدِهِ من يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ مَعَالِمَ الشَّرِيعَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَتَحَمَّلهَا الْفَاسِقُ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ على وَجْهِهَا وَالْأَعْمَى يُوَجِّهُهُ غَيْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَيَصِيرَ في أَمْرِ الْقِبْلَةِ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَمِيلُ في خِلَالِ الصَّلَاةِ عن الْقِبْلَةِ أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَمْتَنِعُ عن الْإِمَامَةِ بعدما كُفَّ بَصَرُهُ وَيَقُولُ كَيْفَ أَؤُمُّكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْدِلُونَنِي وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ التَّوَقِّي عن النَّجَاسَاتِ فَكَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى إلَّا إذَا كان في الْفَضْلِ لَا يُوَازِيهِ في مَسْجِدِهِ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَوْلَى وَلِهَذَا اسْتَخْلَفَ النبي صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي اللَّهُ عنه وَإِمَامَةُ صَاحِبِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَكْرُوهَةٌ نَصَّ عليه أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي فقال أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى وَبِدْعَةٍ لِأَنَّ الناس لَا يَرْغَبُونَ في الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوزُ‏.‏

وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كان لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كان هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كان لَا يُكَفِّرُهُ تَجُوزُ مع الْكَرَاهَةِ وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ في الْجُمْلَةِ حتى لو أَمَّتْ النِّسَاءَ جَازَ وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ وَسَطَهُنَّ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها أَمَّتْ نِسْوَةً في صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَأَمَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ نِسَاءً وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ على السِّتْرِ وَهَذَا أَسْتَرُ لها إلَّا أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ وَيُرْوَى في ذلك أَحَادِيثَ لَكِنَّ تِلْكَ كانت في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذلك وَلَا يُبَاحُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ بِدَلِيلِ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نهى الشَّوَابَّ عن الْخُرُوجِ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ وما أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فيه في مَوْضِعٍ آخَرَ وكذا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ يَصْلُحُ إمَامًا في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَؤُمَّ الصِّبْيَانَ في التَّرَاوِيحِ وفي إمَامَتِهِ الْبَالِغِينَ فيها اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ على ما مَرَّ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ فليسا ‏[‏فليس‏]‏ من أَهْلِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الصَّلَاةِ‏.‏

فصل بيانِ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ على التَّفْصِيل

ِوَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ على التَّفْصِيلِ فَكُلُّ من صَحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ في صَلَاةٍ يَصْلُحُ إمَامًا له فيها وَمَنْ لَا فَلَا وقد مَرَّ بَيَانُ شَرَائِط صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَالله الموفق‏.‏

فصل بيانِ من هو أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ من هو أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بها فَالْحُرُّ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ من الْعَبْدِ وَالتَّقِيُّ أَوْلَى من الْفَاسِقِ وَالْبَصِيرُ أَوْلَى من الْأَعْمَى وَوَلَدُ الرِّشْدَةِ أَوْلَى من وَلَدِ الزِّنَا وَغَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ من هَؤُلَاءِ أَوْلَى من الْأَعْرَابِيِّ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَقْرَؤُهُمْ لِكتاب اللَّهِ تَعَالَى وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَلَا شَكَّ أَنَّ هذه المعاني ‏[‏الخصال‏]‏ إذَا اجْتَمَعَتْ في إنْسَانٍ كان هو أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ وَالْمُسْتَجْمَعُ فيه هذه الْخِصَالُ من أَكْمَلِ الناس‏.‏

أَمَّا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كِبَرُ السِّنِّ فَلِأَنَّ من امْتَدَّ عُمُرُهُ في الْإِسْلَامِ كان أَكْثَرَ طَاعَةً وَمُدَاوَمَةً على الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَتْ في أَشْخَاصٍ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إذَا كان يُحْسِنُ من الْقِرَاءَةِ ما تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ وَذَكَرَ في كتاب الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ فقال وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكتاب اللَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ اقرؤهم لِكتاب اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا ثُمَّ من الْمَشَايِخِ من أَجْرَى الحديث على ظَاهِرِهِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ إذَا كان يُحْسِنُ من الْقِرَاءَةِ ما تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ أَوْلَى كَذَا ذُكِرَ في آثَارِ أبي حَنِيفَةَ لِافْتِقَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هذا الْقَدْرِ من الْقِرَاءَة إلَى الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ من تَدَارُكِ ما عَسَى أَنْ يَعْرِضَ في الصَّلَاةِ من الْعَوَارِضِ وَافْتِقَارِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا إلَى الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ الْمُفْسِدِ لِلصَّلَاةِ فيها فَلِذَلِكَ كان الْأَعْلَمُ أَفْضَلَ حتى قالوا إنَّ الْأَعْلَمَ إذَا كان مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ وَالْأَقْرَأُ أَوَرَعُ منه فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ الْأَقْرَأَ في الحديث لِأَنَّ الْأَقْرَأَ في ذلك الزَّمَانِ كان أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ فَأَمَّا في زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا في الْقُرْآنِ وَلَا حَظَّ له من الْعِلْمِ فَكَانَ الْأَعْلَمُ أَوْلَى فَإِنْ اسْتَوَوْا في الْعِلْمِ فَأَوْرَعُهُمْ لِأَنَّ الْحَاجَّةَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ إلَى الْوَرَعِ أَشَدُّ قال النبي صلى الله عليه وسلم من صلى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صلى خَلْفَ نَبِيٍّ وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً في الحديث لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كانت فَرِيضَةً يَوْمئِذٍ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَيُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْهِجْرَةُ عن الْمَعَاصِي فَإِنْ اسْتَوَوْا في الْوَرَعِ فَأَقْرَؤُهُمْ لِكتاب اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ فَإِنْ اسْتَوَوْا في الْقِرَاءَةِ فَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا» لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَإِنْ كَانُوا فيه سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ من باب الْفَضِيلَةِ وَمَبْنَى الْإِمَامَةِ على الْفَضِيلَةِ فَإِنْ كَانُوا فيه سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا لِأَنَّ رَغْبَةَ الناس في الصَّلَاةِ خَلْفَهُ أَكْثَرُ وَبَعْضُهُمْ قالوا مَعْنَى قَوْلِهِ في الحديث أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا أَيْ أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ يُقَالُ وَجْهُ هذا الْأَمْرِ كَذَا وقال بَعْضُهُمْ أَيْ أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ كما جاء في الحديث من كَثُرَ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هذا التَّكَلُّفِ لِأَنَّ الْحَمْلَ على ظَاهِرِهِ مُمْكِنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذلك من أَحَدِ دَوَاعِي الِاقْتِدَاءِ فَكَانَتْ إمَامَتُهُ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ هو أَوْلَى وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ في بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث أبي سَعِيدِ مولى بَنِي أُسَيْدٍ وَلِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ على تَكْرِمَةِ أَخِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فإنه أَعْلَمُ بِعَوْرَاتِ بَيْتِهِ»‏.‏

وفي رواية‏:‏ في بَيْتِهِ وَلِأَنَّ في التَّقَدُّمِ عليه ازْدِرَاءً بِهِ بين عَشَائِرِهِ وَأَقَارِبِهِ وَذَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَوْ أَذِنَ له لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كانت لِحَقِّهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الضَّيْفَ إذَا كان ذَا سُلْطَانٍ جَازَ له أَنْ يَؤُمَّ بِدُونِ الْإِذْنِ لِأَنَّ الاذن لِمِثْلِ هذا الضَّيْفِ ثَابِتٌ دَلَالَةً وأنه كَالْإِذْنِ نَصًّا وَأَمَّا إذَا كان الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ له حَيْثُمَا يَكُونُ وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عليه إلَّا بِإِذْنِهِ وَالله أعلم‏.‏

فصل بيانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ

وَأَمَّا بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَنَقُولُ إذَا كان سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ يَتَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ لِفِعْلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَلِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّ جَدَّتِي مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى طَعَامٍ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ من وَرَائِهِ وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ من وَرَائِنَا» وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بها عن غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَبَهُ على الدَّاخِلِ لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالتَّقَدُّمِ وَلَوْ قام في وَسَطِهِمْ أو في مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أو في مَيْسَرَتِهِ جَازَ وقد أَسَاءَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ وقد وُجِدَتْ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فلتركه ‏[‏فتركه‏]‏ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَجَعْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ الدَّاخِلُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَفِيهِ تَعْرِيضُ اقْتِدَائِهِ لِلْفَسَادِ وكذا ‏[‏ولذلك‏]‏ إذَا كان سِوَاهُ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا لِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَقَامَ وَسَطَهُمَا وقال هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنَا ما رَوَيْنَا أنا النبي صلى الله عليه وسلم صلى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمَ وَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ وهو مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ هكذا صَنَعَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم تُرْوَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ فلم يَثْبُتْ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ وهو مَحْمُولٌ على ضِيقِ الْمَكَانِ كَذَا قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وهو كان أَعْلَمَ الناس بِأَحْوَالِ عبد اللَّهِ وَمَذْهَبِهِ وَلَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَهِيَ أَيْضًا مَحْمُولَةٌ على هذه الْحَالَةِ أَيْ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ضِيقِ الْمَكَانِ‏.‏

على أَنَّ الْأَحَادِيثَ إنْ تَعَارَضَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمَعْقُولِ الذي لِأَجْلِهِ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ حَالُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فيه غير أَنَّ هَهُنَا لو قام الْإِمَامُ وَسَطَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ وَكَوْنِ التَّأْوِيلِ من باب الِاجْتِهَادِ وَإِنْ كان مع الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أو صَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ يَقِفُ عن يَمِينِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْتَبَهَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ الْآيَاتِ ثُمَّ قام إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ في الْهَوَاءِ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عن يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي وفي رواية‏:‏ بِذُؤَابَتِي وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حتى أَقَامَنِي عن يَمِينِهِ فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا فلما فرع ‏[‏فرغ‏]‏ قال ما مَنَعَكَ يا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ في الْمَوْضِعِ الذي أَوْقَفْتُكَ فيه فقلت أنت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ في الْمَوْقِفِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»‏.‏ فَإِعَادَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ دَلِيلٌ على أَنَّ الْمُخْتَارَ هو الْوُقُوفُ على يَمِينِ الْإِمَامِ إذَا كان معه رَجُلٌ وَاحِدٌ وَكَذَا رُوِيَ عن حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قام عن يَسَارِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَوَّلَهُ وَأَقَامَهُ عن يَمِينِهِ ثُمَّ إذَا وَقَفَ عن يَمِينِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عن الْإِمَامِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ وهو الذي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَوْ كان الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ من الْإِمَامِ وكان سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ كما لو وَقَفَ في الصَّفِّ وَوَقَعَ سُجُودُهُ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ وَلَوْ وَقَفَ عن يَسَارِهِ جَازَ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنهما وَقَفَا في الِابْتِدَاءِ عن يَسَارِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُمَا بِهِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَقَامَ الْمُخْتَارَ له وَلِهَذَا حَوَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ ولو وَقَفَ خَلْفَهُ جَازَ لِمَا مَرَّ وَهَلْ يُكْرَهُ لم يذكر مُحَمَّدٌ الْكَرَاهَةَ نَصًّا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ منه على يَمِينِهِ فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عن السُّنَّةِ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ على يَسَارِهِ وقال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ في مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاةَ لِمُنْبَذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ هو الْكَرَاهَةُ وَإِنَّمَا نَشَأَ هذا الِاخْتِلَافُ عن إشَارَةِ مُحَمَّدٍ فإنه قال وَإِنْ صلى خَلْفَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عن يَسَارِ الْإِمَامِ وهو مُسِيءٌ فَمِنْهُمْ من صَرَفَ جَوَابَ الْإِسَاءَةِ إلَى آخِرِ الْفِعْلَيْنِ ذِكْرًا وَمِنْهُمْ من صَرَفَهُ إلَيْهِمَا جمعا ‏[‏جميعا‏]‏ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا على الْآخَرِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ ثُمَّ أَثْبَتَ الْإِسَاءَةَ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا وإذا كان مع الْإِمَامِ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا مُفْسِدَةٌ وَكَذَلِكَ لو كان معه خُنْثَى مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَلَوْ كان معه رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أو رَجُلٌ وَخُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَ عن يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ أو الْخُنْثَى خَلْفَهُ وَلَوْ كان معه رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ أو خُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ أو ‏[‏والخنثى‏]‏ الخنثى خَلْفَهُمَا وَلَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَنَاثَى وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ الْإِنَاثُ ثُمَّ الصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ في الْجَنَائِزِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا جِنَازَةُ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ وَالْخُنْثَى وَالْأُنْثَى وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ وَكَذَلِكَ الْقَتْلَى إذَا جُمِعَتْ في حَفِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ على ما يُذْكَرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَأَفْضَلُ مَكَانِ الْمَأْمُومِ إذَا كان رَجُلًا حَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا» وإذا تَسَاوَتْ الْمَوَاضِعُ في الْقُرْبِ إلَى الْإِمَامِ فَعَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ في الْأُمُورِ وإذا قَامُوا في الصُّفُوفِ تَرَاصَّوْا وَسَوَّوْا بين مَنَاكِبِهِمْ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «تَرَاصُّوا والصقوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ»‏.‏

فصل بيانِ ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَنَقُولُ إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كانت صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ أو كانت صَلَاةً تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ فَإِنْ كانت صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدهَا سُنَّةٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قام وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ في مَكَانِهِ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْمُكْثُ على هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا فَرَغَ من الصَّلَاةِ لَا يَمْكُثُ في مَكَانِهِ إلَّا مِقْدَارَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أنت السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَرُوِيَ جُلُوسَ الْإِمَامِ في مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِدْعَةٌ وَلِأَنَّ مُكْثَهُ يُوهِمُ الدَّاخِلَ أَنَّهُ في الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ فَيَفْسُدُ اقْتِدَاؤُهُ فَكَانَ الْمُكْثُ تَعْرِيضًا لِفَسَادِ اقْتِدَاءِ غَيْرِهِ بِهِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إنْ شَاءَ إنْ لم يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا فَرَغَ من صَلَاةِ الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وقال هل رَأَى أحد ‏[‏أحدكم‏]‏ منكم رُؤْيَا كَأَنَّهُ كان يَطْلُبُ رُؤْيَا فيها بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ فَإِنْ كان بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ في الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وقال لِلْمُصَلِّي أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ كما يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ قال بَعْضُهُمْ يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ وقال بَعْضُهُمْ يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ وقال بَعْضُهُمْ هو مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من الِانْحِرَافِ وهو زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جميعا وَإِنْ كانت صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ له الْمُكْثُ قَاعِدًا وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُم‏.‏

رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا من الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا على الرَّضْفِ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ على الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عن ذلك الْمَكَانِ ثُمَّ يتنفل ‏[‏ينتقل‏]‏ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيَعْجِزُ أحدكم إذَا فَرَغَ من صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأَخَّرَ وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ في الْمَكَانِ الذي أَمَّ فيه وَلِأَنَّ ذلك يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ على الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ أو اسْتِكْثَارًا من شُهُودِهِ على ما رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ له يوم الْقِيَامَةِ وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا حَرَجَ عليهم في تَرْكِ الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ على الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عنه وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ على الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ الْكُلَّ في الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عن الْإِمَامِ وَلِمَا رَوَيْنَا من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَمَّا الذي هو في الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو أَصْلِيٌّ وَنَوْعٌ هو عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ‏.‏